كتب هذا المقال تلبية لطلب مساهمة من مركز محمد بنسعيد أيت إيدير للأبحاث والدراسات في 25 يوليوز 2023
ونشر في مجلة الربيع العدد 15 لسنة 2023. المغرب من صفحة 32 الى 46
الإشكالية المطروحة، في هذه المساهمة
المٌقتضبة، هي لماذا، باستعجال، وبدون دراسة استراتيجية رسميـــة ورأس مال بشري
ملائـــم وتمويل كاف ومترجم فعليـــا في الميزانية، ادعت الحكومة أن المغرب دولة
اجتماعية؛ في تناقض كلي مع التصنيفات المتواضعة جداً الممنوحة في عدة ميادين اجتماعية
من طرف المؤسسات والجامعات الدولية المختصة؟ والمدهش أيضا هو أننا نلاحظ إجماعا
شبه كلي على استعمال هذا المفهوم من طرف النخب السياسية والنقابية والصحفية
والفاعلين في المجتمع المدني وبعض الأساتذة الجامعيين والخبراء الموسميين. فهل
افتقدنا للمنهجية العلمية والنقد المبني على الحجج لإنجاح أكثر المشاريع تعقيدا
ووجوبا للمقاربة التشاركية؟ هل فشلت جامعاتنا في إحداث مختبرات وأقسام مختصة في
الدراسات القانونية والاقتصادية في الصحة بشكل خاص والحماية الاجتماعية بشكل عام؟
هناك فئة قليلة تبدي رأيا خارج السياق العام والمنابر الرسمية، وتكاد لا تسمع في
هذا الضجيج الإعلامي المكلف مادياً. نجد أيضا خلطا كبيرا في استعمال مفاهيم الدولة
الحامية، والدولة الراعية، والدولة الاجتماعية، ودولة الحماية الاجتماعية، وبعض الأنماط
الفرعية لدولة الرفاه، وبين نظم وفروع الحماية الاجتماعية، واستراتيجيات وأولويات
المنظومة الصحية... حيث لا يفرق البعض بين التأمين الإجباري عن المرض، والتغطية
الصحية الشاملة! وهي مفاهيم مٌعرَّفة بدقة من طرف الباحثين والخبراء والمؤسسات
الدولية التابعة للأمم المتحدة، وخاصة المنظمة العالمية للصحة، ومنظمة العمل الدولية
والبنك الدولي.
تاريخيا ومنذ ظهور مفهوم الدولة الويستفالية (Westphalie) في 1648 كان عمل
الدولة يقتصر على الوظائف السيادية (الدفاع، الدبلوماسية، العدل، الأمن، العملة،
وما إلى ذلك). وسميت بالدولة الدركية أو الأمنية (Etat gendarme). في نهاية القرن
التاسع عشر بدأت تتغير وظائف الدولة بظهور أنظمة تؤسس للتأمينات الاجتماعية للعمال مقابل
مساهمات كما هو الحال في النظام الألماني الذي وضع أسسه المستشار بسمارك في
1880. في 1942 أسس لورد بيفريدج النظام
الإنجليزي على مبدأ الشمولية. ويمكن تصنيف النموذجين أعلاه حسب وظيفتهما الأصلية
والنسقين التاريخين اللذين ظهرا فيه كدول حماية اجتماعية؛ لأن كليهما حاول تنظيم
وتطوير وتنويع الحماية الاجتماعية في مختلف فروعها. إلا أنهما يختلفان في جوهرهما
وفي طرق التمويل؛ فالنظام الأول تأميني مرتبط بالشغل، محافظ وممول باشتراكات
القطاعات العمالية التي تدافع عن مكاسبها الفئوية. أما النظام الثاني فاجتماعي
شامل في قطاع الصحة (وليس في كل الحماية الاجتماعية) يهتم بكل السكان على قدم
المساواة، ومُعظم تمويله يأتي من الضرائب وعلى أداء مبالغ ضئيلة مقابل الخدمات
الطبية.
في فرنسا وُلدت دولة الرفاه مع الضمان الاجتماعي في عام 1945، الذي يهدف
إلى حماية السكان من المخاطر الاجتماعية: الصحة، الشيخوخة، الأسرة، التوظيف،
الإسكان، البطالة والفقر. وكان النموذج الفرنسي في بدايته أقرب إلى النسق
الألماني.
أما النموذج الثالث فهو الليبرالي الأمريكي الذي يتميز عمومًا بغياب الحماية
الشاملة والإلزامية الممولة بالتضامن، ويعتمد إلى حد كبير على التأمين الخاص، رغم
وجود برامج عمومية محدودة مخصصة لفئات معينة.
في ميدان الصحة، يُعتبر النموذج الأمريكي الأغلى تكلفة (أكثر من 16،9%
من الناتج الداخلي الخام) والأقل نجاعة في الدول الغنية. وهو مبني على حرية العرض والطلب بدون مراقبة
الأثمان. وقد أدى إلى ارتفاع مديونية 100 مليون أمريكي بمبالغ كبيرة حتى عند
المتوفرين عن التأمين عن المرض.
هذه الأنظمة الثلاثة استُعمِلت في معظم دول أوروبا الغربية بعد الأزمة
الاقتصادية الكبرى وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وظهور الأنظمة الشيوعية في
أوربا الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي.
ولتعريف نموذج دولة الرفاه (Etat Providence, State Welfare) يلجأ غالبية
المحاضرين إلى تصنيف كوستا إسبين أندرسن Gosta Espin Andersen المقسم إلى الأنواع
الثلاثة المشار إليها أعلاه. هذا التصنيف الأكاديمي وضع سنة 1990 (وثم تحديث
الإصدار في 2007) بناءً عن التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها الدول
الغربية، أي عند فئة قليلة نسبياً من سكان العالم. ولكل تصنيف سياسي وسوسيلوجي
محدودية زمنية وإيدلوجية وسياقية.
بعض المحللين المغاربة لا يميزون نظريا بين نماذج دولة الرفاه كما فعل ذ.
حسن أوريد حين قال إن لورد بيفريدج هو مؤسس الدولـــــة
الاجتماعية. في حين يُصنف
النموذج الإنجليزي ضمن أنواع الرفاه الليبرالي وهو ليس ديمقراطيا اجتماعيا، وقد
عرف تراجعات عدة مع ماركريث تاتشر والحكومات المحافظة. ويتوجه نظام التقاعد
الإنجليزي حاليا نحو التوفير الخاص أو المعاشات التقاعدية عن طريق الرسملة. ذ. حسن أوريد ترجم Etat Providence بالدولة
الراعية والدولة الحامية واستعمل المفهومين كمرادفين، مع العلم أن الدولة الحامية
مُعرَّفة في القانون الدولي الإنساني كدولة تُمثل دولة أخرى ذات سيادة تفتقر إلى
التمثيل الدبلوماسي.
حاليا، النموذج الصيني هو أكبر نظام
للتغطية الصحية عالميا لأنه يشمل جميع سكان البلاد تقريبا، وتغطية
التقاعد وصلت نسبة 93% من السكان المسجلين، ويحتل الضمان الاجتماعي ومدخراته
الرتبة الأولى في الناتج الداخلي الخام.
وقد بدأ إصلاح قطاع
الصحة عام 2009. وحققت الصين تقدُّما ملحوظا في زيادة
متوسط العمر المتوقع عند الولادة، كما حققت تخفيضا لمعدل وفيات الأمهات والأطفال.
وتوجد حاليا نماذج ناجحة في الحماية الاجتماعية
في كوبا ورواندا وسنغافورة مع نتائج صحية جد محترمة، حيث إن معدل الحياة عند
الولادة في كوبا أجود منه في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020.
الدولة الاجتماعية هي أسمى درجات العقد الاجتماعي؛ لكن في رأيي المتواضع لم
يُتحْ لها أن ترى النور كاملة وباستمرارية.
توجد في خيال بعض السذج والمناضلين والحالمين بغد أفضل للإنسانية. وحتى إن بدأَتْ في التطور في بعض الدول في
الثلاثين سنة التي توصف بالمجيدة، إلا أنها عاشت أوقاتا حرجة منذ أواخر سبعينيات
القرن الماضي مع ظهور البطالة الهيكلية وأزمة الطاقة أو ما سُمي بحرب البترول.
في بداية القرن 21 شهد العالم عدة أزمات ديمقراطية ومالية واجتماعية وبيئية
ووبائية متتالية كما تلقت دولة الرفاه ضربات قوية من طرف الليبراليين الجدد الذين أثروا على توصيات البنك
الدولي وصندوق النقد الدولي في توجه نيو ليبرالي متشدد. وبعد اكتساح العولمة والاستهلاكية،
وفي أعقاب الأزمة المالية لسنة 2008، توسعت فجوة الفوارق الاجتماعية في أغلب بلدان
الكون لتصل أوجها في السنوات الأربع الأخيرة حيث ضاعت، حسب البنك الدولي وفي ظرف
وجيز، معظم المجهودات المبذولة في عقود لتقليص الفقر. وسُجلتْ تراجعات بيِّنة في
الحقوق الاجتماعية في عدة دول كانت إلى عهد قريب رائدة في هذا الميدان. وتم تخفيض
الموارد والاعتمادات المالية وتفكيك تدريجي للمنظومات الصحية والتعليمية
والاجتماعية بالأخص. ويعيش نظام التقاعد في فرنسا في هذه المرحلة أوقاتا حرجة أدت
إلى أزمة سياسية غير مسبوقة. وتوسعت دائرة الصحاري الطبية لتصل إلى 87 %
من مجموع التراب الفرنسي. وكما هو الحال بالنسبة لاختلالات المنظومة الصحية في دول
غربية عديدة التي عرّى عليها التدبير المتذبذب لجائحة كورونا.
إن الدولة الاجتماعية المثالية تُعطي مبدئيا حقوقا أكبر بكثير من دولة
الرفاه لأنها تضمن الحقوق الاجتماعية دستوريا وتضعها تحت المسؤولية الأولى
والأخيرة للدولة وبدون تقاسم مع أي كان. كما هو الشأن في المادة 31 من الدستور
المغربي الحالي، حيث تتقاسم الدولة المسؤولية مع المؤسسات العمومية والجماعات
الترابية ذات الميزانيات الهزيلة والموارد البشرية المؤهلة القليلة.
وتُعتبر مبادئ المساواة والتضامن أسمى أهداف الدولة الاجتماعية التي يلزم
أن تتحقق. ويمكن اعتبار دستور إسبانيا قدوة في هذا المجال، نظرا لعدد المواد
المخصصة للحقوق الاجتماعية التي تترجم فعليا في الميزانية وعلى أرض الواقع.
وتتراوح ميزانية الصحة والحماية الاجتماعية في
دول الرفاه من 50% إلى 60 % من ميزانية الدولة (مقابل 7% في المغرب)، وتُعادِل في
إسبانيا 10 مرات ميزانية التجهيز.
توجد أقرب النماذج للدولة الاجتماعية أيضا في دول شمال أوروبا وبعض بلدان
جنوب أسيا. وهي دول ساكنتها قليلة نسبيا ودخلها عالٍ، وفيها أنظمة تعليمية جيدة،
وتضمن مجانية التعليم والصحة، وتحمي المستهلك. وكلما زادت مداخيل الدولة ارتفعت
معها ميزانية الحماية الاجتماعية. ومع ذلك لا تدعي أي منها أنها دولة اجتماعية.
الدولة الاجتماعية
تُبنَى على العدالة الجبائية لضمان العدالة
الاجتماعية
تعطي "دولة الرفاه " دورا رئيسيا للدولة في تحقيق العدالة
الاجتماعية عبر إعادة توزيع الثروة الوطنية، وتنظيم الاقتصاد، ومساعدة الفقراء في
ولوجهم للخدمات الجماعية. والأداة المتميزة لبلوغ هذا الهدف هي الإصلاح الضريبي.
رغم تنظيم المغرب لعدة ندوات في هذا الشأن كان يُتوخى منها تقليص الفوارق
الاجتماعية الملفتة للانتباه، ما تزال الضريبة على القيمة المضافة على رأس مداخيل
الميزانية في 2023، وهي ضريبة غير مباشرة وغير عادلة، لأنها تخصُم نفس النسبة من
مداخيل الأغنياء والفقراء على حدٍ سواء.
هذا، إلى جانب ما بلغه التملص الضريبي
في بعض القطاعات والشركات من مستويات لا تُقبل في دولة تريد تعميم الحماية
الاجتماعية. وقد تجاوزت قيمة التملص الضريبي 3 مليار دولار حسب بعض المصادر. كما أن التعامل بالدفع نقدا (cash)
بمبالغ ضخمة جدا، عوض الشيكات والبطاقات البنكية، لا يساعد على ضبط الاختلالات
الكبيرة. كما تستفيد قطاعات تَجني أرباحاً ضخمة-منذ عقود -من إعفاءات ضريبية
كالمدارس الخاصة والفلاحة في تحد كبير لكل أهداف الحماية الاجتماعية الشاملة.
أضف إلى ذلك أن 75 % من الضريبة الفردية على الدخل تُؤدَى من جيوب الأجراء،
في حين تساهم المهن الحرة والتجارة ب 5 %، حيث أكتر من 60% لا يؤدون أي درهم، وحيث
الأطباء في القطاع العمومي والشبه عمومي مثلا يؤدون مبالغ أكبر من بعض زملائهم في
القطاع الخاص رغم تفاوت مستويات الدخل والعيش! (القطاع الخاص مثلا يستفيد من 90 % من مصاريف التأمين الاجباري عن المرض،
والأمثلة كثيرة فيما يخص المحامين والتجار والسياحة والخدمات …)
المخاض الطويل والعسير لولادة الحماية
الاجتماعية
بعد 47 سنة من الاستقلال، وبعد عدة سنوات من
الدراسات والندوات والمناظرات، تم التصويت في 2002 على القانون رقم 65.00 المتعلق بالتغطية الصحية الأساسية لكل
فئات المغاربة: الأجراء وغير الأجراء والمستقلين والمستفيدين من المساعدة الطبية
(الراميد). ومع ذلك مازالت الحكومة لم تصدر إلى اليوم عددا كبيرا من النصوص
التنظيمية، بحيث لم يًفَعَّل هذا القانون بشكل معقول ولا كامل حتى بالنسبة
للأجراء. أما بالنسبة للفئتين الباقيتين، فقد اعترفت الدولة في سنة 2020، بوجود 22
مليون من السكان بدون تأمين إجباري عن المرض.
والغريب أن البرلمان بغرفتيه، وفي غياب نشر أية دراسة استراتيجية معمقة
وتقديم السيناريوهات للأحزاب وللشركاء الاجتماعيين والرأي
العام وللخبراء الدين ساهموا في بلورتها كما كان الحال بالنسبة للجنة النموذج
التنموي، سيتبنَّى بسرعة فائقة سنة 2021 وبدون أدنى تعديل-القانون الإطار 09-21
لتعميم الحماية الاجتماعية في أفق سنة 2025 وهو عبارة عن نص صغير يحتوي على 19
مادة ويمكن تلخيصه في جدول بسيط "يُحدد " الساكنة المستهدفة والتمويل
والآجال (انظر آخر المقال). وتم حصْر
اختيارات المغرب في أربعة فروع من أصل تسعة موجودة في الاتفاقية 102 للمنظمة العمل
الدولية، بشأن المعايير الدنيا للضمان الاجتماعي. وهذه الفروع هي: 1-التعويضات
العائلية 20 مليار درهم، و2-التقاعد 16 مليار درهم، و3-التأمين الإجباري عن المرض
14 مليار درهم، و4-التعويض عن فقدان الشغل بمليار درهم. مع العلم أنه لا يمكن تشبيه التعويض الضئيل
جداً عن فقدان الشغل في المغرب بالتعويض عن البطالة، وهو من أهم فروع الحماية
الاجتماعية دولياً، التي تهدف إلى ضمان دخل تعويضي في حالة البطالة كالتي وقعت مع
الجائحة.
ومعلوم أن المغرب كان قدم تحفظات كثيرة في هذا الصدد قبل أن يُوقِّع في سنة
2020 على اتفاقية 102 المعتمدة سنة 1952، ولحد الآن وبعد 68 سنة عن الاستقلال لم
ينخرط بعد كليا في هذه الاتفاقية والتوصيات التي أعقبتها.
ونلاحظ أن توزيع هذه المبالغ الخيالية لم يحترم ثقل كل فرع كما هو الحال في
الأنظمة المتشابهة، بحيث لا يمكن للتعويضات العائلية أن تتصدر مصاريف التقاعد
والتأمين عن المرض والتعويض عن فقدان الشغل. فمجموع التمويل المرتقب بلغ إذن 51
مليار سنويا أي 255 مليار درهم في 5 سنوات وهي مدة التعميم. وهو مبلغ يُعادل كل المداخيل
الضريبية لميزانية 2021، حيث سيُساهم القطاع الخاص ب 28 مليار سنويا
(في أنه لم يساهم إلا ب 4 مليار درهم في صندوق كوفيد!) والدولة ب 23 مليار درهما.
هذا علما أن الميزانيات التي صوت عليها البرلمان في السنوات الثلاثة الأولى من
المشروع لا تحتوي على هذه المبالغ. ورغم إحداث وتخصيص مداخيل ضريبية جديدة له، ما
تزال اعتمادات صندوق دعم الحماية الاجتماعية والتماسك الاجتماعي الذي يمول
140 برنامجا اجتماعيا لا تتجاوز 10 مليار درهم كما كانت قبل كوفيد. في 2023 سيخصص
منها 9,5 مليار درهم AMO للتضامن (الرميد
سابقاً) و0,5 مليار للأشخاص في حالة إعاقة، فمن أين ستُموَّل البرامج
الأخرى، وعلى رأسها التعويضات العائلية ب 20 مليار درهم؟
إن اختيارات الدولة واضحة منذ زمن طويل، ولم يؤثر عليها في شيء النموذج
التنموي: الاستثمار العمومي أولاً مهما كانت الأزمات. أصبحت ميزانيته تعانق 300
مليار درهم في 2023 بعد أن كانت 190 مليار في 2017. في حين لم يحظَ صندوق دعم
الحماية الاجتماعية والتماسك الاجتماعي إلا بنفس الاعتمادات (Crédits alloués) ولا يُستهلك منها فعلياً إلا النصف مع الرغم
من تضاعف المداخيل الضريبية 3 مرات في 15 سنة.
المساعدات المقدمة للفقراء من طرف الدولة المغربية إذن هزيلة وماسة بكرامة
المستفيد. وهذه هي نقطة الفصل بين دولة الرفاه والدولة الاجتماعية. فنظامنا الحالي
لا يدخل في أي من النموذجين. إن توزيع 10 مليار درهم على كل البرامج الاجتماعية لن
يقدم سوى مبالغ هزيلة لن تُسمن ولن تغني من جوع أمام الارتفاع المهول للمعيشة
لثلثي المغاربة الموجودين في هشاشة. وكمثال فالمساعدات الموزعة في برنامج تيسير عن
الأطفال المتمدرسين تتراوح بين 60 و100 درهم في الابتدائي. ولا تتعدى المساعدة
للأرامل أمهات الأطفال اليتامى 350 درهما للطفل اليتيم في حدود 3 أطفال. وكذلك
الشأن بخصوص ميزانية الأشخاص في حالة إعاقة المحدودة في 500 مليون درهم بالنسبة
لأكثر من 2.6 مليون فردا. وهي كلها أمثلة
تظهر هزالة المساعدات المقدمة.
الحماية الاجتماعية للعمال الأجراء
لم يذكر القانون الإطار 09-21 أبداً العمال
الأجراء في تعميم الحماية الاجتماعية رغم أن عددا مهماً منهم لا يتوفر على التأمين
الإجباري عن المرض نتيجة للغش وللتملص الاجتماعي من التصريح بهم لدى الصندوق
الوطني للضمان الاجتماعي (الص و ض ج). وهناك أرقام مخجلة في قطاعات الفلاحة
والبناء والصناعة التقليدية والتجارة والسياحة والمطاعم وفي قطاع النسيج والخدمات
وحراس الأمن رغم عملهم في عدد من الإدارات العمومية. وبعد صراع طويل مع المسلسل
التشريعي لتغطية عاملات وعمال المنازل لم يتجاوز عدد المصرح بهم إلى حد الآن أكثر
من ستة ألف مؤمن، و77% من الأجراء المصرح بهم لم يقدموا أي ملف استرجاع لقلة
الإمكانيات المالية لأداء مصاريف العناية الخارجية كتكاليف الاستشارة والتحاليل
الطبية والفحص بالأشعة والدواء في انتظار استردادها.
هؤلاء الأُجراء المؤمنون متوزعون على أكثر من 40 صندوق تأميني بدون مراقبة
فعلية ودائمة من طرف سلطة تدبيرية مختصة تراقب إجبارية التأمين وتوحيد واجبات
المؤسسات. ولا وجود حاليا لأية متماثلات
بينها فيما يخص نسب الاشتراك أو الاسترجاع ولا قفة العلاجات والمستثنيات والسقوف
والتعريفة والمراقبة الطبية ولائحة الأدوية القابلة للاسترداد والنظام المعلوماتي
وقواعد التسيير…إلخ.
أوجب القانون 65-00 المساواة بين الأجراء لكن
المراسيم التنظيمية تمعن إمعانا في مخالفة الدستور، أسمى نص قانوني، فتعطي
للموظفين امتيازات لم تعطها لأجراء القطاع الخاص في نسب الاشتراك والاسترجاع وفي
تغطية الوالدين.
وهنا تلزم الإشارة إلى أن " نظام" الأجراء محدود، يطبعه التشتت
وانعدام التنسيق، علاوة على أنه مُكلِّف وبدون نجاعة ولا يهتم بالرعاية الوقائية.
إذا ما أضفنا إلى ذلك أن المغرب يتوفر، حسب المنظمة العمل الدولية والبنك
الدولي، على أعلى نسبة في القطاع غير الرسمي أو غير المهيكل في دول البحر الأبيض
المتوسط، وحددته في 77 %، فهذه النسبة لوحدها تُظهر مستوى الهشاشة وعدم احترام
قوانين الشغل والحماية الاجتماعية وعلى رأسها التعويض عن حوادث الشغل، كما أكد ذلك
المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
أما فيما يخص تقاعد أجراء القطاع الخاص فالأمور لم تعرف أي إصلاح جوهري منذ
1990 رغم وجود تقريرين للبنك الدولي وللمنظمة العالمية للشغل. فحسب المندوبية
السامية للتخطيط، فإن نسبة 25,8 في المائة فقط من الساكنة النشيطة منخرطة في نظام
للتقاعد. يعطي الصندوق الوطني للضمان
الاجتماعي تعويضات هزيلة جدا عن الشيخوخة بحيث لا يتجاوز معدل التعويضات أكثر من
2000 درهم. 70% من المتقاعدين يتقاضون أقل من 1600 درهم شهرياً و25 % أقل من 1000
درهما.
أما بالنسبة للعمال المستقلين وغير الأجراء كالتجار وأصحاب المهن الحرة،
فعدد ذوي الحقوق المفتوحة منهم يتجاوز لحد الآن أكثر من 000 250 عاملا مستقلا
حسب الص و ض ج، وهو رقم بعيد كل البعد عن
العدد المصرح به من طرف الوزير المنتدب في الميزانية حين قال إنها وصلت إلى 2،4 مليون مستقلا أو 70 % من
11 مليونا مستهدفا في ماي 2022. في
الحقيقة لم نتجاوز 8%
إن المنهجية التي استعملت في التأمين الإجباري
عن المرض للعمال المستقلين وغير الأجراء كانت مستعملة منذ نشر القانون 98-15 سنة
2017. ومع ذلك يؤكد المسؤولون أن المشروع
غير مسبوق. وعوض تصحيح المنهجية، وقع تسرع مُتهوِّر في إعداد ونشر المراسيم
التنظيمية التي حددت مبلغ الاشتراك بطريقة غير سليمة وتوافقية، خصوصا في الطريقة
المتبعة في تحديد الدخل الجزافي المتوسط الذي كان دائما في صالح ذوي الدخل المرتفع
ويُواجَه بالرفض من ذوي الدخل الأدنى وخاصة في المناطق النائية التي لا تتوفر
الخدمات الصحية. وبهذا أصبح الإشهار بعدد المراسيم المنشورة كهدف في حد ذاته.
وفي إطار الإعلام والتعريف احتاج ال ص.
و. ض. ج إلى إطلاق حملات إشهار جد مكلفة بعشرات ملايين درهما لتحسيس كل فئة.
وسيبدأ قريبا في خوض عمليات التحصيل عبر شركات خاصة مع العدد الهائل من المستقلين
3،3 مليون. الصندوق يتعامل حاليا مع 270 ألف مشغل. بعض الشرائح لم تكن تعلم
أصلا أن لديها حقوقا مفتوحة منذ أكثر
من سنتين مطالبة بتأدية واجب الانخراط. وهكذا تم الانخراط بطريقة غريبة وغير
ممنهجة. فقد توصل ال ص. و. ض. ج بقوائم إلكترونية من هيئات الاتصال كالوزارات
والمؤسسات العمومية والهيئات التمثيلة، مبنية على معطيات غير موثقة وبدون معلومات
كافية للتواصل مع كل المستفيدين، واعتُبِر كل فرد داخل اللائحة منخرطا حتى وإن لم
يملأ أية استمارة للتصريح بزوجته وأبنائه، وبرقم حسابه البنكي، وعنوانه، ورقم
هاتفه، ولم يؤد أية مساهمة. وكلها اختلالات أدت إلى نتائج سلبية.
أما فيما يتعلق بالمستفيدين من نظام
الراميد الذين حُدد عددهم أيضا في 11مليون نسمة في خطاب 29 يوليوز2020، مع
العلم بأن عددهم كان قبل ذلك يتجاوز 13 مليون نسمة، وأن البطائق لم تُجدد ولم
تُوزع مدة سنتين. وعلى الرغم من أن الأزمات الثلاث التي عرفها المغرب كالجفاف،
ووباء كوفيد 19، والتضخم قد أثرت على وضعية الفئات الهشة والفقيرة بحيث اعترفت
المندوبية السامية للتخطيط بتزايد عدد الفقراء ب 3 ملايين نسمة في هذه الفترة.
وكما صرح الوزير المنتدب في الميزانية بأن ثلثي المغاربة يعيشون في هشاشة؛ وأكد
والي بنك المغرب السيد الجواهري بأن 6 ملايين عائلة مكونة من أربعة أفراد استفادت
من دعم الدولة وقت الوباء، مما يعني أن العدد المصرح به قد بقي متجمدا منذ خطاب
العرش؛ أي لمدة ثلاث سنوات وهو رقم لا يتماشى مع عدد السكان ووضعيتهم الاجتماعية
الحقيقية، كما لا يستحضر الدينامية الديمغرافية والاجتماعية.
في فاتح دجنبر 2022 لم يستقبل الص.و.ض.ج سوى لائحة من عشرة ملايين مستفيدا.
وقيل بأن أكثر من 900 ألف لم يكن لهم الحق في الاستفادة من هذا النظام (كأنهم غشوا
وتحايلوا للذهاب إلى المستشفى العمومي ذي الإمكانيات المحدودة). ولإصلاح نظام
الرميد عُقِدت عدة اجتماعات على أعلى مستوى.
وقد بدأ التسجيل عبر الانترنت في السجل
الاجتماعي الموحد وتم تحديد عتبة المؤشر الاجتماعي والاقتصادي، بمرسوم، في
9,3264284، وهو رقم مدهش من حيث الدقة وعدد الأرقام بعد الفاصلة !
وتأخذ فيه بعين الاعتبار مصاريف كل العائلة في السكن، (البادية / المدينة)،
والأملاك، والسيارة، واستهلاك الماء والكهرباء، والهاتف، والقروض البنكية،
والأبناء القاطنين بالخارج... هذه المؤشرات للأسرة مبنية على معطيات كثيرة وليس
على الدخل اليومي أو الشهري الفردي... وقد اشتكت هيئات المجتمع المدني من استعمال
الدولة المعطيات الفردية المتواجدة عند المؤسسات العمومية والخاصة دون احترام
القانون المتعلق بحمايتها. وفي نفس المسطرة يُتبع التصريح الرقمي ببحث في المداخيل
من طرف السلطات المحلية. وإذا ما طرأ أي تغيير في وضعية المؤمن وتجاوز العتبة ب
0,0000001 يتوقف عن الاستفادة من التغطية حتى وإن كان عنده مرض مزمن. وعليه أن
يبدأ المسطرة من جديد بتغيير المعطيات في السجل الاجتماعي الموحد، ولدى هيئة
الاتصال، والصندوق الوطني للضمان. وأغلب هذه المساطر مرقمنة في بلد ما تزال أغلبية سكانه في عداد الأميين. وهي أمور تجعل
شكاوى عدد كبير من الأشخاص في حالة هشاشة في ازدياد مضطرد. ويرى بعض الملاحظين والمتتبعين للشأن الاجتماعي
الوطني بأنه إذا استمر استعمال هذه العتبة وهذه المنهجية فقد لا يتجاوز عدد المستفيدين
أكثر من 6 ملايين مستفيدا في نظام تضامن AMO رغم وجود هشاشة فعلية لدى فئات واسعة
من الساكنة. وهو نفس الحال بالنسبة للأشخاص في حالة إعاقة الذين لم يأخذ السجل
الاجتماعي الموحد بعين الاعتبار الحالة الاجتماعية لأغلبهم. نجهل لحد الآن العدد الصحيح للدين ثم إقصاؤهم
لحد الآن. 2 أم 3 ملايين من الفقراء وذو الهشاشة؟
مثلما رأينا أعلاه مع العمال الأجراء، لن تستطيع فئات واسعة من الفقــراء
والموجودين في وضعية هشاشة الاستفادة الفعلية من خدمات القطاع الخاص في الرعاية
الأولية لأنهم ملزمون بالأداء المسبق نقدا وانتظار الاسترداد. والملفات الأكثر
تقديما حاليا للص و ض ج تتعلق بالأمراض المزمنة التي تتزامن عادة مع التضامن
التقليدي والقوي للأسرة والقبيلة والأقرباء، لذلك مازالت الأسر تساهم بنسبة 63% من
مجموع مصاريف الصحة، أما مساهمة الدولة فمازالت تراوح مكانها منذ 2006 ب 25 %.
وللتذكير والمقارنة ففي الدول التي تنهج التغطية الصحية
الشاملة تنحصر مساهمة الأسر ما بين 5 %و20%.
لذلك يمكننا القول بأننا ما نزال في نطاق التضامن الأسري التقليدي ولم نصل
بعد إلى التضامن المؤسساتي لدولة اجتماعية.
أما الخلاصة الأساسية فهي أنه بدون تغطية صحية
أساسية ومتساوية وشاملة وموحدة ودائمة (لا تتوقف عند عدم الأداء أو تغيير المؤشر)
ومتضامنة لكل المواطنين لا يمكن الحديث عن " دولة اجتماعية".
الطب ليس تجارة ومع ذلك يعرف
فوضى في التعريفة:
المقاربة المغربية الغريبة
لا يتضمن القانون المتعلق بمزاولة مهنة الطب ولا مدونة التأمين عن المرض
أحكاما تُنظِّم التحرير المفرط لأسعار الخدمات الطبية. التعريفة المرجعية الوطنية
ملزمة فقط للصناديق العمومية.
أما منظمات التأمين الأخرى كالتعاضديـــات وشركات التأميـن (CNSS) و (CNOPS)فلديها تعريفات أو معايير وممارسات مختلفة.
وكل مريض غير مُؤمَّن يتفاوض بشكل شخصي على الأتعاب، هذا إذا سمح له بذلك
الوقت والوضع الصحي. والنتيجة الفعلية هي " أن المواطن يجد نفسه أمام سوق"
تجارية غير منظمة" خلافا للمبدأ الأساسي للقانون الذي ينص عل أن "الطب
ليس تجارة". وللتذكير فإن فرنسا تتوفر على تعريفة موحدة إلا لمن أراد أن
يكون خارج الاتفاقية ولكنه ملزم بالتصريح بالمبلغ الحقيقي المسدد.
وعندنا بعض المصحات ترفض التعامل بالثلث المؤدى عنه في خدمات معينة لا تناسبها
التعريفة المعتمدة.
ومن المؤكد أن تسعيرة الاستشارة الطبية والإنعاش
(1500 درهم) في التعريفة المرجعية الوطنية تتطلب المراجعة إذا ما كان قسم الإنعاش
مفتوحا طوال السنة ويستوفي لمعايير محددة ولتصنيف منهجي مراقب. لكن هذه التعريفة
لا تهم جميع الساكنة لأن مدنا كثيرة لا يوجد فيها أي قسم أو طبيب
للإنعاش. وفي نفس الآن، ينبغي تخفيض التعريفات الخاصة ببعض الأمراض المزمنة
والأدوية، لأنها أكثر تكلفة للمغربي منه للأوروبي. إن وزارة الصحة لا تراقب بانتظام وفعالية الممارسات السلبية لبعض العيادات الخاصة أو
"المهنيين" في مجال تسعيرة الخدمات الطبية والفوترة
والتي يشتكي منها المرضى ومديرو صناديق التأمين على حد سواء كالمبالِغ
المُبالَغ فيها والمطلوبة خارج الاتفاقية الوطنية الموقعة من طرف الهيئات الممثلة،
وكذا المبالغ المطلوبة نقدا خارج الفاتورة؛ ورفض الأداء بالشيك. هذه الحالات
والأساليب استغلتها بعض الأطراف والأقلام لإلصاق وتعميم وصمة عار على مهنة
الطب بأكملها. وقد دلت التجربة أن هذه الممارسات ترهن تطور الاستثمارات الطبية
الأجنبية والتعاون مع منظمات التأمين الصحي الأجنبية وخاصة
لدول جنوب الصحراء وتُبعِد كل يوم المغرب عن الطب الاجتماعي، الذي
كانت ولفترة طويلة مصحات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، نموذجه
المثالي.
ما الفرق بين التغطية الصحية الشاملة
والتأمين الإجباري عن المرض؟
تعني التغطية الصحية الشاملة بالنسبة للمنظمة العالمية للصحة أن يحصل كافة
الناس على خدمات صحية جيدة التي يحتاجون إليها، متى وأينما كانت حاجتهم إليها، دون
التعرض لضائقة مالية من جراء ذلك كالفقر المدقع أو إنفاق مدخرات العمر أو بيع
الأملاك أو الاقتراض، مما يدمر مستقبلهم ومستقبل أولادهم في أغلب الأحيان.
ولتحويل هدف الصحة للجميع إلى واقع
ملموس، لا بد من توفر عاملين صحيين مهرة يقدمون خدمات جيدة، ومسئولين سياسيين
ملتزمين بالاستثمار في التغطية الصحية الشاملة.
ولقد أكد مدير المنظمة العالمية للصحة أن “الأمر
ببساطة، هو أنه لن تكون هناك صحة بدون عاملين في مجال الصحة والرعاية”.
وارتباطا بهذا الموضوع نشير إلى أن الاجور والتعويضات الهزيلة الممنوحة لن
تُمكِن المغرب من إيقاف نزيف هجرة أطره الطبية والتمريضية المطلوبة عالميا وبمبالغ
تفوق عدة مرات تلك الممنوحة محليا. والتي لن تستطيع مقاومة المنافسة الدولية أو
جلب المهنيين الأجانب. وللأسف أننا لم نُعِر الاهتمام لتوصيات وتحذيرات المنظمة
العالمية للصحة المتكررة سنويا منذ 2006 حول النقص الحاد في الموارد البشرية. وحتى
عندما وُعِدنا بتكوين 3300 طبيب سنويا لم نكوِّن فعليا إلا 1500 يذهب نصفهم تقريبا
إلى الخارج ليتشغلوا في ظروف عمل وتكوين مستمر وشروط لا تُقارن مع ما كانوا عليه
في بلادهم. ومن نتائج هذا الوضع أن العديد
من الأطر الصحية المكونة ترفض الآن الالتحاق بالمستشفيات العمومية. أما الخلاصة
المؤسفة من كل هذا فهي أن المنظومة الصحية ستنهار قريبا إن لم تنصف الموارد
البشرية، ومن خلالها حقوق المريض.
في هذا الصدد يلزم التوضيح أن ترتيب أولويات التغطية الصحية الشاملة
بالنسبة للمنظمة العالمية للصحة يتمثل في جودة العناصر الستة التالية وهي:
1-الخدمات الطبية. 2-الرأسمال البشري. 3-المعلومات والإرشادات الًصحية. 4-الأدوية
والمستلزمات الطبية والتجهيزات. 5-التمويل 6-الإدارة العامة والحكامة.
فبخصوص الأولوية الأولى أي " سلامة المريض" لا يتوفر المغرب
حاليا على نصوص تنظيمية منشورة في الجريدة الرسمية تضبط معايير النظافة والسلامة
والجودة والاعتماد في قطاع الصحة، يلجأ إليها القضاة والمتقاضون لضبط حالات عدم
احترام المعايير المنصوص عليها في القانون. والدولة تُعفي نفسها من التأمين عن
المسؤولية الطبية في المستشفيات العمومية وتُلزم بذلك القطاع الخاص في خرق لمبدأ
المساواة في الدستور. ومع ذلك لا يتوفر معظم الأطباء عن تأمين المسؤولية الطبية في
مستوى الأضرار الناتجة عن عملهم.
أما أولويات التأمين الإجباري عن المرض في المغرب فتبدأ بالاقتطاعات
والتحصيل لخدمات غير موجودة وعديمة الجودة في مدن وقرى عديدة تخلو من اختصاصات
كثيرة وعلى رأسها طب الإنعاش والتخدير والجراحة بكل اختصاصاتها والتوليد والأمراض
النفسية، لأن المصحات الخاصة توجد أغلبيتها في خمسة مدن كبرى كما أكد ذلك مجلس
المنافسة، بالتالي فإن "خبراءنا "
يقلبون موازين اقتصاد الصحة: الأداء أولاً حتى لو لم يوجد عرض أو خدمات؟
الخطاب الرسمي يستعمل مفهوم التغطية الصحية الشاملة المضبوط والمتعارف
عليه دوليا، خارج السياق. أما القوانين المتخذة منذ بداية التعميم فلا تتكلم إلا
عن التأمين الإجباري عن المرض والفرق كبير بين المفهومين.
إننا أمام نظام تأميني له مرجعيات ربحية، لأن الصندوق الوطني للضمان
الاجتماعي يتوفر في نهاية 2021 على فائض مالي خيالي يتجاوز 41 مليار درهم أي 4100
مليار سنتيم. هو يعمل كشركة تأمين خاصة لها آليات وتدبير مالي، فأوجه التقارب
بينهما لا تُحصى: كل شيء مسقف: المسؤولية، التعريفة، الضمانات، ونسبة الاسترجاع.
ماعدا المساهمات فهي غير مسقفة، وهي تزداد سنويا مع ارتفاع كتلة الأجور. وللإشارة
الدالة فأنه منذ البداية الفعلية للتأمين عن المرض والصندوق مسير من طرف مدراء
عامين وأطر قادمة من قطاع التأمين. وجود الفائض لم يغير أي شيء في التعويضات التي
لا تُخفِّف من الضائقة المالية للمرضى كما تطلبه المنظمة العالمية للصحة. هذه مؤسسة
عمومية لها مداخيل تفوق بكثير مداخيل شركة تأمين في شعبة المرض. إنها لا تراكم
هذا الفائض لصالح للمنخرطين أي العمال بل تستعمله الدولة في مشاريع أخرى. في
حين لا زالت نسبة التحمل أو الاسترجاع النظرية لا تتجاوز 70% من التعريفة المرجعية
الموحدة رغم قرارات مجلس إدارة الص و ض ج. والنتيجة هي أن النسبة المتبقية على
عاتق المؤمن مرتفعة جدا قد تصل في بعض الأحيان إلى 70% من التكاليف الحقيقية وهو
شيء مكلف جدا لذوي المداخيل الدنيا.
حسب المنظمة العالمية للصحة فالأداء المباشر له آثار صحية خطيرة لأنه يؤدي
إلى تأجيل الفحوصات الطبية والعلاج المبكر.
ماهي النسبة الحقيقية للتغطية الصحية
في المغرب؟
أكد رئيس الحكومة
الحالي أمام البرلمان في 24 أكتوبر
2022 بأن نسبة التغطية الصحية ستنتقل من 42% إلى 100% من السكان في نهاية
السنة. وهو رقم خيالي تحلم به كل الدول
المتقدمة التي سبقتنا في هذا الميدان ويحتاج إلى توضيح ومراقبة من طرف مؤسسة
مستقلة لها مصداقية خصوصا وأنها قُدمت لنواب الشعب وتُكَذَّب يومياً بمعطيات أخرى
صادرة عن مؤسسات الدولة كالمندوبية السامية للتخطيط والوكالة
الوطنية للتأمين عن المرض التي صرحت في أبريل 2023 أن نسبة التغطية وصلت إلى 74%.
بل حتى العدد الإجمالي للسكان يختلف من
مصدر حكومي لآخر: فهو 33 مليون بالنسبة لرئيس الحكومة و35 مليون بالنسبة للسيد
لقجع و37 مليون نسمة حسب المندوبية السامية للتخطيط. فكيف يمكن إعداد سياسة عمومية
واستراتيجية بهذه الأهمية، بأرقام على هذه الحال من التضارب؟ كان المغرب قد أقنع
نفسه والمؤسسات الدولية بأن نسبة التغطية الصحية قد بلغت 66% قبل بداية التعميم.
وكان وزير الصحة البروفيسور الوردي قد وعد في يناير 2016 ببلوغ 95 %.
فما هو الفرق بين إحصائيات المراسيم واللوائح والقوائم Listings غير
المكتملة المرسلة إلى الص.و.ض.ج من طرف هيئات الاتصال وإحصائيات الانخراط الفعلي
بالأداء والحقوق المفتوحة للاستفادة من الخدمات الطبية والتعويض عنها، إذ أنه
بـــدون أداء لا تغطيــــة صحية؟؟. ولأن مهمة الإخضـــاع. (Assujettissement)
التي يقوم بها الص.و.ض.ج بالنسبة
للأجراء خوَّلها القانون لهيئات الاتصال فيما يتعلق بغير الأجراء دون إعطائها
الإمكانيات اللازمة للقيام بمهمة جديدة غير محددة قانونيا، صعبة للغاية وخارج
اختصاصاتها سابقا.
تتكون هيئات الاتصال من مؤسسات مختلفة كالوزارات والهيئات والجمعيات
المهنية والفدراليات. بعض الوزارات لا تقوى على إحصاء موظفيها الأشباح.
الفرق كبير جدا أيها المسؤولون الحكوميون بين هذين النوعين من الإحصائيات.
فأرقامكم شيزوفرنية تربك الباحثين والطلاب وتعطي صورة سيئة عن مستوى صدقنا
وصدقيتنا. فهل يظن المسؤولون المغاربة أن بإمكانهم بهذه الإحصائيات غير المضبوطة
أن يخدعوا المؤسسات الدولية؟
إنها لم تغير قط أي تصنيف في أي مؤشر
اجتماعي وانساني. لا زالت المراتب تراوح مكانها منذ عقود، رغم وصولنا في 30 يونيو
إلى نصف المدة المعلنة رسميا في برنامج تعميم الحماية الاجتماعية. فأين هي
الإحصائيات والنتائج ذات المصداقية؟
إن تراجع ترتيب المغرب في مؤشر التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة،
باحتلاله المرتبة 123 كآخر بلد في حوض البحر الأبيض المتوسط بعد تراجع مؤشرات
الصحة والتعليم. بحيث أصبح المغرب في التعليم يحتل مراتب متأخرة؛ فمتوسط مدة
الدراسة في المدينة 5 سنوات وفي البادية 3 سنوات، و300 ألف تلميذ يغادرون المدرسة
سنويا، و70% من مجموع التلاميذ لا يحسنون القراءة والكتابة. وقد اعترف وزير
التربية نفسه بوجود 28 في المائة من التلاميذ من الفئة العمرية ما بين 12 و14 سنة
خارج المدرسة، وبالتالي فإن هذه المؤشرات دالة وواضحة، ولا توجد في المراتب الأولى
بين الدول الأكثر تقدما في الميدان الاجتماعي دولة لها نفس المعطيات المتدنية في
التعليم. وبالتالي فنحن بعيدون عن معايير إرساء الدولة الاجتماعية المتحدث عنها.
إن المؤشرات العالمية التي تصنف المغرب في مراتب متأخر ة عن بلدان لها نفس
الدخل، ليست وليدة الصدفة أو نابعة من تحامل ما من طرف تلك المؤسسات، فالمغرب يعرف
فوارق اجتماعية واضحة بين الفقراء والأغنياء وتفاوتات مجالية في التجهيزات العامة
بين البادية والمدينة والجبال. والمواطنون يحسون بغياب الحماية الاجتماعية في
واقعهم اليومي وفي جيوبهم ويعرفون هذه الحقيقة قبل المؤسسات الدولية.
ومن ناحية أخرى لا يمكننا تصنيف المغرب كدولة اجتماعية والحال أن ميزانية
140برنامج اجتماعي ب 10 مليار درهم غير كافية منذ أربع سنوات؛ ولأن مستوى منح
الشيخوخة وحوادث الشغل والسير دون القدر المطلوب، ونسبة تعويض التأمين الإجباري
على المرض ضئيلة. ميزانية الدولة لتسيير
قطاع الصحة والحماية الاجتماعية لا تهتم بالرأسمال البشري بقدر ما تهتم بالبنايات
والتجهيزات في غياب مستعمليها.
هذا، إضافة إلى أن نظامنا في المجال الاجتماعي يمكن وصفه بالليبرالي
المتوحش لأنه يبحث عن تفويت قطاعي الصحة والتعليم للخواص دون دفتر التزامات
اجتماعية واضحة تحترم المنفعة العامة وديمومة الخدمات وبدون تأطير ومراقبة منتظمة
مما يثقل كاهل الفقراء بمصاريف التعليم ويغذي الهدر المدرسي، أو يتسبب عند المرض
في ارتفاع مديونتهم أو في تخليهم عن العلاج.
زد على ذلك أنه خلافا للأنظمة الليبرالية لا توجد في المغرب أية منافسة
داخلية أو خارجية حقيقية في قطاعي التأمين والصحة.
وإذا كانت الفوارق الاجتماعية في
المغرب بهذا الحجم حيث تراجع مؤشرجيني ( Gini )
بسبع نقط حسب المندوبية السامية للتخطيط، وكما يدل عن ذلك أيضاً تصنيفنا في
المراتب العشر الأخيرة 2022 في مؤشر الفجوة بين الجنسين ، فلا يمكن أن تُسمَّى دولتنا بالدولة الاجتماعية إلا إذا كان ذلك الهدف هو الاستهلاك الإعلامي والسياسي الداخلي
المحض، وتوفير مناخ ملائم لمزيد من تفكيك صندوق المقاصة وتحرير أثمان الغاز
والمواد الغذائية المدعمة مقابل منح
تعويضات هزيلة للفقراء؛ و ضغط قوي في
الاقتطاعات الاجتماعية والضريبية على
الطبقة الوسطى بخدمات صحية لا تحترم معايير
الجودة والسلامة في أغلب مناطق البلاد.
فحذاري من أي تفكيكٍ متهورٍ لصندوق المقاصة
وخاصة أمام ظاهرة المضاربات العالمية والداخلية الموسمية في المواد الأساسية وأن
العالم مقبل حتما على أزمات مالية وصحية وبيئية أخرى.
وإذا كان بعض السياسيين يتكلمون عن بناء الدولة
الاجتماعية فإن ذلك مجانب للصواب وللمعايير الدولية المعتمدة، لأن الواقع يدل على
بناء غير مرتكز على تخطيط وتدبير وتمويل محكمين، عكس ما يقع في التجهيزات والبنية
التحتية وفي الأوراش الكبرى التي تُحتَرم الميزانية والمدة المعلن عليهما في بداية
كل ورش وتتوفر عن الكفاءات اللازمة. والسؤال الأخير الذي يطرح نفسه هو: هل لنا نفس
الإرادة ومنهجية هذه المشاريع لبناء الدولة الاجتماعية الفعلية؟ وهل يمكنُ بلوغها بنفس الوصفات والاختيارات
القديمة/الجديدة وبنفس الإمكانيات؟ وهل يمكن لأحسن تلميذ للنيوليبرالية في المنطقة
أن يؤسس دولة اجتماعية في هذا السياق؟ وهل يمكن أن يكون قدوة للدول
الإفريقية؟
بين وهم الخطاب السياسي والواقع:
النموذج المغربي
سعد الطاوجني
يوليوز2023 25 الدار البيضاء
يصدرها مركز محمد بنسعيد أيت إيدير للأبحاث والدراسات المغرب
في نفس العدد يوجد مقالا بالفرنسية تحت
عنوان
« De l’Etat social au
Maroc, les concepts et les données » Saâd Taoujni . Pages 108 à 119